خيانة الأقليات في سورية: بين أوهام الامتيازات وسقوط الأقنعة
بقلم مسؤول المكتب الإعلامي لحزب أهل الشام : محمد نجيب نبهان
الجمعة 07/03/2025
لم يكن سقوط نظام بشار الأسد مجرد انهيار سياسي، بل كان زلزالًا ضرب بنية اجتماعية وسياسية شديدة التعقيد، كانت قائمة على الامتيازات الطائفية والمناطقية التي وفرها النظام لمجموعة من الأقليات، ليضمن ولاءها المطلق. ومع سقوط هذا الجدار الحامي، وجدت هذه الأقليات نفسها فجأة أمام واقع جديد لم تستوعبه، فبدلًا من التكيف مع المرحلة القادمة والانخراط في بناء سورية جديدة على أسس العدل والمساواة، اختارت أسلوب المقاومة السلبية، بل والمسلحة أحيانًا، لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء أو على الأقل تعطيل مسار الدولة الجديدة. هذا المشهد المتشابك من الخيانة والاضطراب لم يكن وليد اللحظة، بل هو نتاج عقود من التلاعب والتخويف الذي زرعه النظام السابق في عقول هذه الأقليات، حتى باتت ترى بقاءها مرتبطًا ببقائه، وزواله يعني فنائها.

الساحل السوري: إرث الدم ورفض المحاسبة
منذ الأيام الأولى لسقوط النظام، تحول الساحل السوري إلى بؤرة فوضى غير مسبوقة، حيث كانت الطائفة العلوية، التي كانت تشكل العمود الفقري للقوات المسلحة وأجهزة الأمن، تعيش حالة من الذعر الوجودي. كان النظام قد زرع فيهم قناعة راسخة بأن سقوطه يعني نهايتهم، وأن الأكثرية السنية ستنتقم منهم شر انتقام. هذا الخطاب لم يكن مجرد دعاية، بل كان استراتيجية استخدمها الأسد الأب ثم الأسد الابن بذكاء، حيث حرص النظام على أن يكون القامع الأساسي للانتفاضات الشعبية هم العلويون أنفسهم، ليجعلهم شركاء في جرائمه، وبالتالي يربط مصيرهم بمصيره.
وعندما انهار النظام، وجدت الطائفة العلوية نفسها مكشوفة أمام المحاسبة، بعد أن انكشفت جرائمها بحق أبناء الوطن. ومع بدء الدولة الجديدة عملية العدالة الانتقالية، بدأت الأصوات العلوية تصرخ بأن ما يحدث هو “انتقام طائفي”، متجاهلة أن المحاكمات تستهدف المتورطين في الجرائم لا الطائفة ككل. إلا أن هذه الرواية وجدت طريقها إلى الإعلام الغربي، الذي طالما تعامل مع الملف السوري من زاوية الأقليات، متجاهلًا الجرائم التي ارتكبها النظام والمليشيات العلوية التابعة له.
وبدأت مرحلة جديدة من التمرد، حيث انتشرت العصابات العلوية المسلحة في مدن الساحل، تمارس عمليات الخطف والقتل والابتزاز ضد السكان، في محاولة لإبقاء المنطقة خارج سيطرة الدولة. لم يكن هذا الفعل عشوائيًا، بل كان مخططًا لإرسال رسالة واضحة: “إما أن يُترك الساحل لنا لنحكمه كما نشاء، أو سنحوله إلى جحيم للجميع.” ومن هنا، أصبحت الدولة الجديدة أمام معضلة حقيقية: كيف تفرض سيطرتها على الساحل دون الانجرار إلى حرب استنزاف طويلة مع العصابات العلوية؟
دروز الجنوب: ازدواجية الولاء وفوضى المصالح
على الطرف الآخر من البلاد، لم يكن موقف الدروز أقل اضطرابًا، وإن اتخذ شكلًا مختلفًا. فلطالما كان الدروز بارعين في لعبة التوازنات السياسية، يعرفون كيف يغيرون ولاءاتهم حسب الظروف، وكيف يفاوضون للحصول على أكبر المكاسب بأقل التكاليف. خلال حكم الأسد، لم يكن للدروز نفوذ يضاهي نفوذ العلويين، لكنهم حافظوا على هامش من الاستقلالية، واستطاعوا تجنب الغرق في وحل الصراع الطائفي المباشر. ومع سقوط النظام، كان متوقعًا أن ينضموا إلى الدولة الجديدة، لكن ما حدث كان عكس ذلك تمامًا.
فجأة، بدأت الأصوات الدرزية تتحدث عن “الخصوصية”، وعن “حق تقرير المصير”، وأصبحت السويداء بؤرة اضطرابات لا تهدأ، بحجة “المطالب الشعبية”، بينما الحقيقة أن ما يحدث هو محاولة لانتزاع مكاسب سياسية على حساب استقرار سورية. تارة يطالبون بحكم ذاتي، وتارة يرفضون تسليم المطلوبين للقضاء، وتارة يتحدثون عن “عدم تبعية السويداء لأي سلطة مركزية”. هذه الازدواجية ليست جديدة، فقد استخدمها الدروز تاريخيًا في فترات ضعف الدولة، حيث يحاولون أن يبقوا على مسافة متساوية من جميع الأطراف، دون التزام حقيقي بأي مشروع وطني جامع.
لكن الأخطر من ذلك، هو التقاطع غير المعلن بين الفوضى الدرزية والمشروع الكردي الانفصالي في الشمال الشرقي، حيث بدأت بعض الشخصيات الدرزية تتحدث عن إمكانية التحالف مع قسد في مواجهة الدولة المركزية. هذه التحركات ليست مجرد ردود فعل عشوائية، بل هي جزء من مخطط مدروس لخلق بؤر توتر متفرقة، تجعل من إعادة بناء سورية مهمة شبه مستحيلة.
قسد ومسد: الوجه الأكثر وقاحة للخيانة
إذا كان العلويون يحاولون فرض سلطتهم بالسلاح، والدروز يماطلون لتحقيق مكاسب سياسية، فإن قسد ومسد لا تخفيان نواياهما الانفصالية. فمنذ سقوط النظام، رفعت هذه المليشيات سقف مطالبها، من المطالبة بحقوق ثقافية للأكراد، إلى المطالبة بالحكم الذاتي، وصولًا إلى التصريح علنًا بضرورة “الاستقلال الكامل” عن الدولة السورية.
وتحظى هذه الجماعات بدعم مباشر من القوى الغربية، التي ترى فيهم أداة يمكن استخدامها للضغط على الدولة السورية الجديدة. فبدلًا من الانخراط في مشروع وطني جامع، انشغلت قسد بتعزيز سيطرتها على النفط والموارد الطبيعية، متجاهلة معاناة السكان العرب الذين يعيشون تحت حكمها القسري. لم يكن المشروع الكردي الانفصالي في سورية إلا امتدادًا لمشروع أكبر في العراق وتركيا، حيث تسعى القوى الكردية إلى إقامة كيان مستقل بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب وحدة سورية.
وبينما كانت الدولة الجديدة تحاول إعادة فرض سيادتها، كانت قيادات قسد تسافر إلى العواصم الغربية، تطلب الحماية وتسوّق لفكرة أن الأكراد يتعرضون “للاضطهاد”، متناسين أنهم ليسوا سوى أداة في يد القوى الخارجية. هذه اللعبة ليست جديدة، فقد استخدمت سابقًا في العراق، حيث نجح الأكراد في انتزاع حكم ذاتي واسع النطاق، وهم اليوم يحاولون تكرار السيناريو ذاته في سورية.
سورية أمام لحظة الحقيقة
إن سورية اليوم ليست فقط دولة تنهض من تحت الركام، بل هي ساحة صراع بين مشروعين: مشروع وطني يسعى لإعادة بناء الدولة على أسس العدل والسيادة، ومشروع تقسيمي تحركه أطراف داخلية مدفوعة بأوهام الامتيازات، وأطراف خارجية لها أجنداتها الخاصة. العلويون يرفضون المحاسبة، الدروز يماطلون، وقسد تحاول تفكيك الدولة. هذه ليست مجرد عقبات سياسية، بل هي تهديدات وجودية تجعل استقرار سورية على المحك.
فالسؤال المطروح اليوم: هل ستنجح الدولة الجديدة في فرض هيبتها، وإعادة بناء سورية كدولة موحدة ذات سيادة، أم أنها ستتحول إلى كيان هش، تتقاسمه العصابات والمليشيات والمشاريع الطائفية؟ الجواب يعتمد على قدرة القيادة الجديدة على التعامل مع هذه التحديات بحزم، دون تهاون مع أي طرف يحاول اللعب بورقة الأقليات لإعادة إنتاج الفوضى.
