نظام الأسد: الطابور الخامس، الطاغوت الذي لم يسقط بعد

محمد نجيب نبهان

الأربعاء 12/03/2025

قد يعتقد البعض أن سقوط نظام الأسد كان نهاية عهد من الظلم والطغيان، وأن هذا السقوط أفسح الطريق أمام حرية الشعب السوري لينطلق نحو بناء دولته الجديدة. لكن الحقيقة أن نظام الأسد لم يكن مجرد سلطة سياسية قابلة للإسقاط بقرار ثوري أو تدخل دولي، بل هو منظومة فكرية متجذرة في المجتمع السوري، متغلغلة في نسيجه كالسوس الذي ينخر في الخشب دون أن يُرى.
لم يكن نظام الأسد مجرد حكم استبدادي، بل كان عقيدة قائمة على تقديس الركود والخوف من التغيير. لم يكن فقط نظامًا أمنيًا صارمًا، بل كان رؤية للحياة لا ترى في أي تحول إلا الفوضى، ولا في أي حراك إلا تهديدًا وجوديًا. هذه العقلية جعلت حتى سقوط الأسد الرسمي غير كافٍ للقضاء على آثاره، لأنه زرع في أذهان كثيرين أن الاستقرار لا يكون إلا تحت قبضته، وأن البديل عنه هو الخراب والتشرذم.

وهذا ما يفسر وجود طابور خامس يعمل حتى بعد سقوطه، وهو طابور ليس بالضرورة من رجال أمنه أو أتباعه المخلصين، بل ممن تبنوا فكرته دون أن يشعروا. هؤلاء ليسوا جميعًا ممن تربوا في كنف مخابراته أو استفادوا من فساده، بل فيهم حتى من ظنوا أنفسهم في صف الثورة، لكنهم تبنوا أسوأ ما أنتجه الأسد: عقلية النقد الهدام، والتركيز على السلبيات، وشيطنة أي محاولة للبناء بحجة أنها غير مثالية.

أمثلة هؤلاء لا تعد ولا تحصى، فهم خبراء في التركيز على تفصيل واحد وتضخيمه ليكون المشهد كله قاتمًا، بينما كانوا في عهد الأسد لا يرون إلا “حكمة القيادة” و”هيبة الدولة” و”ضرورة الاستقرار”. ترى أحدهم يلوك حادثة سرقة مصانع حلب صباحًا ومساءً، وكأن الثورة كانت برنامجًا اقتصاديًا، وميزانيتها العمومية لم تكن متوازنة بسبب تلك الحادثة. لكنه بالمقابل، لا يجرؤ على النطق بسرقة نفط سورية ومواردها لعقود، وكأن تلك كانت هبة إلهية للنظام لا يجوز الاعتراض عليها.

وهناك من أصيب بحساسية مفرطة تجاه بعض الوهابيين التكفيريين الذين انتسبوا للثورة، رغم أن هؤلاء لم يكونوا يومًا السواد الأعظم فيها، لكن في الوقت ذاته، عاش دهورًا في كنف نظام طائفي نصيري بامتياز، قام على إقصاء المسلمين السنة لعقود، حتى أصبح اضطهادهم جزءًا من “الهوية الوطنية” حسب الدعاية الرسمية. هذا الشخص لم يسمع يومًا بفظائع الشبيحة الذين كانوا يقتحمون المدن وهم يهتفون بشعارات طائفية، لكنه فجأة أصبح مناضلًا ضد “التطرف” عندما تعلق الأمر بثورة شعبية تريد إسقاط الطاغية.

ثم هناك العباقرة الذين رأوا في وجود عشرات المقاتلين الأجانب إلى جانب الثورة دليلًا على أنها “حرب بالوكالة”، لكنهم لم يلاحظوا في المقابل الجيوش الروسية والإيرانية والأفغانية والميليشيات العراقية واللبنانية التي احتلت سورية برعاية الأسد. هؤلاء يعتقدون أن بضعة مقاتلين جاؤوا دفاعًا عن أهل السنة خطر وجودي، بينما آلاف المرتزقة القادمين لذبح السوريين تحت راية النظام مجرد “حلفاء استراتيجيين”. هذا النفاق الفكري وحده كفيل بأن يجعلنا ندرك أن المشكلة ليست في الثورة، بل في العقول المريضة التي لا ترى سوى ما تريد أن تراه.

لقد كانت الثورة السورية ثورة شعب كامل، وليس ثورة ملائكة. لكنها تعرضت لحرب نفسية قادها هذا الطابور الذي لم يكن يبحث إلا عن الأخطاء، والذي لم يكن يرى في الثورة إلا بعض اللصوص والمغتصبين والمنتفعين، وكأن الثورة يجب أن تكون طاهرة من كل سوء حتى تستحق الاعتراف بها. هذا الأسلوب في التفكير لم يكن عفويًا، بل كان استمرارًا للدعاية التي بثها النظام نفسه منذ الأيام الأولى للثورة، عندما وصفها بالمؤامرة، ثم بالإرهاب، ثم بالفوضى التي لا أمل في إصلاحها.
إن هذا الطابور لم يكن يومًا معنيًا بمصير الشعب السوري، بل كان يبحث فقط عن تبرير استمرار العقلية الأسدية، حتى لو كان ذلك بوعي أو دون وعي. فهم لم يكونوا يسألون عن الحل، ولم يكونوا يحاولون المساهمة في بناء دولة جديدة، بل كانوا فقط يكررون خطاب النظام: الثورة دمرت البلاد، والثورة لم تقدم بديلاً، والثورة أنتجت الفوضى. لكنهم لم يسألوا أنفسهم يومًا: لماذا أصلاً وصلت البلاد إلى هذه المرحلة؟ ألم يكن الأسد هو من دمر البلاد قبل الثورة بفساده واستبداده، ثم أكمل التدمير بعدها بقصفه وقتله وتهجيره؟ ألم يكن هو من فتح الباب للفوضى عندما سحق أي بديل سياسي وسلم البلاد إما له أو للفوضى التي صنعها بنفسه؟

لقد سقط الأسد، لكن نظامه لم يسقط تمامًا، لأن فكره لا يزال يتغلغل في العقول، ليس فقط في عقول من تبقى من مؤيديه، بل حتى في بعض من يدّعون الثورة عليه. لا يزال كثيرون يتعاملون مع الواقع الجديد بعقلية القديم، ولا يزال البعض يظن أن أي محاولة للبناء محكوم عليها بالفشل لأن الأسد جعل من الخراب قدرًا حتميًا لسورية.
لكن الثورة الحقيقية لا تنتهي بسقوط الطاغية، بل تنتهي فقط عندما تُمحى بقايا فكره من المجتمع. وسورية اليوم تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى ثورة فكرية تقتلع ليس فقط من تبقى من رجال النظام، بل أيضًا من تبقى من أفكاره المتجذرة، والتي تعيق أي محاولة للنهوض، وتجعل البعض يرى في الماضي الأشد ظلامًا خيارًا أفضل من المستقبل المجهول.

لن تسقط سورية، لأن شعبها أثبت أنه قادر على التغيير مهما كانت التضحيات، لكن سقوط الأسد وحده لم يكن كافيًا، لأن معركة الثورة لم تكن يومًا معركة على الكراسي، بل معركة على العقول، وتلك المعركة لم تنتهِ بعد.

مسؤول المكتب الإعلامي لحزب أهل الشام: محمد نجيب نبهان

Posted in: مقالاتTags: